فصل: مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي هذا يعلم عدم وجوب قبول التوبة على اللّه.
والتضعيف في الثواب يدل على المبالغة أي أنه تعالى إذا شاء قبول توبة العبد عفا عن ذنوبه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر، كما ورد بذلك الخبر إذ له أن يتجاوز عنها ولو كانت من أنواع الجنايات وأعظمها، فهو الجواد على عباده بفنون الآلاء مع استحقاقهم أفانين العذاب.
وخلاصة القصة هو ما جاء في الحديث المروي عن ابن شهاب الزّهري عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك، أن عبد اللّه بن كعب قال سمعت كعبا يقول إني لم أتخلف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلا في غزوة تبوك، وقد طفقت أتجهز ولم أزل أتمارى حتى غدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمسلمون، ويحزنني أن أرى لي أسوة (أي من المتخلفين) عن حضرة الرّسول إلا رجلا مغموصا بالنفاق أو ممن غدر اللّه، ولم يذكرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال رجل من بني سلمة يا رسول اللّه حبسه برؤه والنّظر في عطفه، قال معاذ بن جبل بئس ما قلت واللّه يا رسول اللّه ما علمنا عليه إلّا خيرا، قال كعب فلما بلغني قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طفقت أقول بم أخرج من سخطه وقد استعنت بكل ذي رأي من أهلي حتى عرفت إني لم أنج بشيء أجمعت صدقه فجاء المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى اللّه فجئت، وجلست بين يديه فقال ما خلفك قلت يا رسول اللّه واللّه لو جلست عند غيرك لرأيت إني سأخرج من سخط بعذر لند أعطيت جدلا (قوة) في الحجة وشدة في البرهان وبراعة في الدّليل بحيث لا أغلب في المناظرة ولكن علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به مني ليوشكن أن يسخطك علي ولئنّ حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه اني لأرجو فيه عفو اللّه واللّه ما كان لي من عذر واللّه ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلّى اللّه عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي اللّه فيك ثم قلت هل لقي هذا أحد معي قالوا رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك مرارة بن الرّبيع العامري وهلال بن أمية الوافقي صالحان شهدا بدرا ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نهى المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة فتغيروا علينا حتى تنكرت لنا الأرض فلبثنا على ذلك خمسين يوما وليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا يبكيان وأما أنا فأشهد الصّلاة وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأسلم عليه في مجلسه فأقول في نفسي هل حرّك شفنيه برد السّلام اللّهم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النّظر أي أطلب غفلة منه لأنظر إليه وأرى هل ينظر إلي أم لا، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا ألتفت نحوه أعرض عني حتى طالت على جفوة المسلمين فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادة فسلمت عليه فو اللّه ماره علي السلام فقلت أنشدك باللّه هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله وكررت عليه مرارا فقال اللّه ورسوله أعلم فقاضت عيناي وتوليت فبينا أنا في سوق المدينة إذ بنبطي من أهل الشّام دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك اللّه يدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك. قال فقلت وهذه أيضا من البلاء فتيممت به التنور فسجرته به (وهذا من كمال إيمانه رضي اللّه وإلّا لكان هذا الكتاب مما يهون عليه مصابه وبالخاصة أنه من ملك غسان لو أبقاه تلاه كلما ضاق ذرعه ولتبجح به بين النّاس) قال رضي اللّه عنه حتى إذا مضت أربعون يوما من الخمسين واستلبث الوحي أرسل رسول اللّه يأمرنا أن نعتزل نساءنا فقلت لامرأتي الحقي بأهلك حتى يقضي اللّه قال ثم صليت صبح الخمسين ليلة فبينا أنا جالس على الحال التي ذكرها اللّه سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا للّه تعالى وعرفت أن قد جاء الفرج وأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بتوبة اللّه علينا فذهب النّاس يبشرونني ورفيقاي فكسوت البشير ثوبي ثم انطلقت إلى رسول اللّه والنّاس يتلقونني فوجا فوجا يهئنؤنني فلما وصلت سلمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وصليت أمامه فقال أبشر بخير يوم مر عليك قد قبل اللّه توبتك وتوبة رفيقيك فقلت يا رسول اللّه إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة اللّه ورسوله فقال أمسك عليك بعض مالك فقلت يا رسول اللّه إنما أنجاني اللّه بالصدق وأن من توبتي أن لا أحدث إلّا صدقا ثم تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الآيات النازلة فينا لقد تاب اللّه إلى الرّحيم وهذه هي التوبة الصّحيحة.

.مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:

فقد سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النّصوح فقال هي أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه وهذه نتيجة الصّدق الذي هو قوام أمر الخلق، لأن الكذب لا ينجي، وهو داء عضال لا ينجو من نزل به، ومن صنف الكذبة الحمقى، فإن الأحمق ضال مضل إن أونس تكبّر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلّف.
مجالسته مهينة، ومعاتبة محنة، ومجاورته تعرّ، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شتاء.
هذا ومن المتخلفين من ندم فلحق به صلّى اللّه عليه وسلم، ومنهم من بقي وساوره النّدم، قال الحسن رضي اللّه عنه: بلغني أنه كان لأحدهم حائط خير من مائة ألف درهم، فقال:
يا حائطاه ما خلفني إلّا ظلك، وانتظار ثمارك، اذهب فأنت في سبيل اللّه.
ولم يكن لآخر إلّا أهله، فقال: يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلّا التفتن بك، فلا جرم واللّه لأكابدن الشّدائد حتى ألحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: فتأبط زاده ولحق به عليه الصّلاة والسّلام ورضي عنهما، وعن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ماشيا، فقال عليه الصّلاة والسّلام لما رأى سواده كن أبا ذر، فقال النّاس هو ذاك يا رسول اللّه، فقال رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده.
وكانت الأوليان وستكون الثالثة يوم البعث إن شاء اللّه تصديقا لحضرة الرّسول الصّادق صلّى اللّه عليه وسلم راجع الآية [35] المارة تجد ذكره، وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظّل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرّطب والماء البارد، فنظر فقال ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الضّح والرّيح؟ ما هذا بخير فقام ورحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم طرفه إلى الطّريق، فإذا براكب يزهاه السّراب، فقال: «كن أبا خيثمة» فكان، ففرح به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم واستغفر له.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} لا تخالفوه أبدا واعملوا بأوامره ما استطعتم، واجتنبوا نواهيه كلها {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [119] المخلصين له المتوكلين عليه صادقين في إيمانكم وعهودكم ووعودكم، صادقين في دين اللّه في أمركم ونهيكم فعلا وقولا ونية، صادقين في كلّ شئونكم، قائمين بالحق حتى يكون عقدة راسخة في قلوبكم مستقرة في أعماق نفوسكم تحبون لإخوانكم ما تحبون لأنفسكم، فتكونوا صفا واحدا جنبا إلى جنب فتنجحوا في كلّ أموركم كما نجح من قبلكم بتوغلهم في معاني كتاب اللّه، فصاروا أمة متفقة، وكان كلّ منهم بمثابة أمة، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً} قلده السّلف الصّالح منكم فكانوا مثلهم، فإذا أردتم الفوز في الدّنيا والآخرة كونوا مثلهم لإعلاء كلمة اللّه تنجحوا في الدّارين.
قال ابن عباس: الخطاب في هذه الآية لمن آمن من أهل الكتاب، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار وانضموا في سلكهم في الصّدق وبقية المحاسن كلها.
على ان الآية عامة فيهم وفي غيرهم، والمراد بالصادقين عند نزول هذه الآية حضرة الرّسول وأصحابه، لأنه تعالى لما حكم بقبول توبة الثلاثة المذكورين أعقبها بما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى من المتخلفين عن رسول اللّه، فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أمر رسولكم لا تعيدوها أبدا {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} هو وأصحابه وساووهم، لا تفضلوا أنفسكم عليهم فتتخلفوا عن الجهاد معه، وتكونوا مع المنافقين، واحذروا مرافقة الكذبة فإن الكذب من أسوأ الرّذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة، وقد جاء في الخبر لا مروءة لكذوب.
وقال تعالى: {إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ} [الآية 106] من سورة النّحل المارة، لأن المراد بالكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوانات إخبار الغير عمّا لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق لم تحصل فائدة النّطق، وقد حصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشّيطان، فالكاذب إذا شيطان، وكما أن الكذب من أقبح الرّذائل فالصدق من أحسن الفضائل وأحلى كلّ حسنة، ومادة كلّ خصلة محمودة، وملاك كلّ خير وسعادة، وعنصر الرّضاء، وبه يحصل كل كمال وأصل الصّدق الصّدق في عهد اللّه تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق العظمة.
قال تعالى: {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الآية 24] من سورة الأحزاب المارة، أي في عقد العزيمة ووعد الخليفة.
قال تعالى: {إِنَّهُ} أي إسماعيل عليه السلام {كانَ صادِقَ الْوَعْدِ} [الآية 55] من سورة مريم، فإذا روعي الصّدق في المواطن كلها حتى الخاطر والفكر والنيّة والقول والعمل أدّى ذلك إلى اتصافه بالصدق الخالص، حتى ان مناماته.
ووارداته على قلبه تصدق بإذن اللّه تعالى.
روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنّة، وإن العبد ليصدق فيكتب عند اللّه صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النّار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللّه كذّابا.
وانظر ما قال تعالى حكاية عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الآية 84] من سورة ص فإنه إنما ذكر الاستثناء لئلا يكذب، لأنه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادّعاء إغواء الكل، فكأنه استنكف عن الكذب ليكون صادقا في حلفه.
فإذا كان إبليس يستنكف عن الكذب، فالمسلم من باب أولى أن يستنكف عنه.
وتدل هذه الآية الجليلة عل أن إجماع المسلمين يجب الخضوع له، لأن اللّه تعالى أمر عباده المؤمنين بالكون معهم، لأن ملازمة الصّادقين تؤثر في من يلازمهم فيكتسب منهم الصّدق وما يتشعب منه كالنصح والإخلاص والأمانة والأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة، لأن المجالسة تفيد اكتساب ما هو الأحسن عند المجالس، ولهذا أمر صلّى اللّه عليه وسلم مجالسة العلماء، والقصد من الرّابطة عند السّادة الصّوفية هي تعلق الرّابط بأحوال وصفات المرابط والمحبة له والكون معه، لأن الكون مع الصّادق له تأثير عظيم، وقد أمرنا بالمحبّة، قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [الآية 31] من آل عمران المارة.
إذا فالاتباع له تأثير عظيم أيضا في المتبوع فيلزم من هذا وجوب اتباع أمر الرّسول وقبوله والأخذ بما تجمع عليه أمته، لأن المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، راجع [الآية 115] من سورة النّساء المارة، ولهذا جعل السادة الصّوفية الرّابطة شرطا من شروطهم ويلقنونها للمريد كما يلقنونه الذكر المتعارف عندهم بعدده وأوقاته وكيفياته.
قال تعالى: {ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ} بأن يختاروا لها الخفض في العيش والدّعة والرّاحة {عَنْ نَفْسِهِ} الطاهرة، فليس لهم أن يضنوا بأنفسهم ويكرهوا لها ما يصيب نفس الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم من التعب والنّصب، ويختاروا لها ما لا يختارونه لنفس الرّسول، أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يليق بهم تفضيل أنفسهم على نفس رسولهم، بل يجب عليهم أن يفضلوا نفس الرّسول على أنفسهم ويؤثروها في كلّ حال ويحرصوا على مصاحبته في الشّدة والرّخاء، وعليهم أن يلقوا أنفسهم بين يديه ويفدوا أنفسهم أمامه {ذلِكَ} وجوب متابعة حضرة الرّسول وعدم التخلف عنه وتفضيل نفسه على أنفسهم والخروج معه مطلوب منهم ليعلموا {بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ} في غزوهم معه {ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ} قوية مهلكة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لإعلاء كلمته ونصرة رسوله {وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} ويضيق صدورهم ويكدّر خواطرهم {وَلا يَنالُونَ} يأخذون ويصيبون {مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} قليلا كان أو كثيرا من قتل وأسر ونهب وجلاء ولو بتكثير سواد المسلمين بالكون معهم أو غلبة مجردة أو الغارة عليهم بما يلقي الرّعب في قلوبهم {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ} ينتفعون بثوابه حيث يقبله اللّه منهم بسبب إحسانهم هذا {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [120] من عباده، وإذا كان كذلك، فيلزمهم متابعة رسولهم في كلّ حال لينالوا هذا الثواب العظيم من الرّب العظيم الذي سماهم محسنين بسبب ذلك.
الحكم الشّرعي المشيرة إليه هذه الآية هو وجوب متابعة حضرة الرّسول في الغزو وعدم التخلف عنه:
وهذه الآية محكمة عامة جار حكمها في زمن الرّسول ومن بعده من الخلفاء والأئمة والسّلاطين والأمراء والحكام إذا دعوا النّاس للجهاد لإعلاء كلمة اللّه ودفع الظّلامة عن المسلمين وصونهم من التعدي عليهم أو على ثغورهم وجبت متابعتهم وإجابة دعوتهم والجهاد معهم بالمال والنّفس معا عند القدرة أو بأحدهما حتما بلا خلاف على القادر.
أما ما قاله قتادة من أن حكمها خاص برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقول لا مبرر له، لأن الغزو ليس من خصوصيات حضرة الرّسول نفسه ليختص الحكم فيه بل هو من جملة مصالح المسلمين، وما كان من مصالح المسلمين كان عاما، وإلّا لما قام به الخلفاء الرّاشدون من بعده صلّى اللّه عليه وسلم.
قال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيدا يقولون إنها لأول هذه الأمة وآخرها، ونقل الواحدي عن ابن عطية أن هذا إذا أمرهم ودعاهم، وقال هذا هو الصّحيح.
وما قاله ابن زيد من أن هذه الآية منسوخة في قوله تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية الآتية بعد هذه، وانها كانت حين كان الإسلام قليلا، قول غير سديد، لأن هذه الآية خاصة بمن كان يأتي من الأحياء ليسأل حضرة الرّسول عن أمر الدّين كما سنبينه في تفسيرها إن شاء اللّه.
أما القول بقلة الإسلام وضعفه عند نزول هذه الآية فغير صحيح، لأنه كان كثيرا وقويا بالنسبة لأعدائه إذ ذاك، والقوة تعتبر في كل زمان بما يناسبه، حتى إن أعداء الإسلام في هذا الزمن أكثر وأكثر بالنسبة لزمن نزول هذه الآية، إذا لا حجة بالقلة والكثرة، تدبر.
قال تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً} في سبيل الله: {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} من شق التمرة فما فوقها {وَلا يَقْطَعُونَ وادِيًا} في ذهابهم وإيابهم {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} به عمل صالح مقبول عند اللّه يثابون عليه {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [121] في الدّنيا من الجهاد وغيره وإنهم يؤجرون على كلّ شيء بأحسنه وأكثر ثوابا.
تدل هذه الآية على أن من قصد طاعة اللّه كانت جميع حركاته وسكناته حسنات مثاب عليها عند ربه.
ومن قصد معصيته كانت عليه سيئات معاقب عليها إلّا أن يتغمده اللّه برحمته.